عندما نختبر ظروفًا قاسية، يشجعنا أن نرجع بذاكرتنا لتاريخ شهدائنا، الذين ضحوا بحياتهم لينتقل ميراث الإيمان عبر الأجيال حتى يصل إلينا اليوم. وبدون أي استخفاف بما نشعر به من حزن وألم لفراق أحبائنا، لابد أن نقبل حقيقة أننا غير معفيين من بركة الاستشهاد، وأن جيلنا لابد أن يشارك بنصيبه في قائمة أبطال الإيمان الذين لا يستحي بهم الله أن يُدعى إلههم. واليوم بينما نتوحد من جديد مع مخلِّصنا الذي قام، لنتذكر ما كتبه الرسول بطرس ليشجع الكنيسة المتألمة: «أيها الأحباء، لا تستغربوا البلوى المحرقة التي بينكم حادثة، لأجل امتحانكم، كأنه أصابكم أمر غريب، بل كما اشتركتم في آلام المسيح، افرحوا لكي تفرحوا في استعلان مجده أيضًا مبتهجين» (١بطرس ٤: ١٢ – ١٣). الملاحظ هنا، وفي كل النصوص الكتابية التي تتحدث عن الضيق الذي يواجهه المؤمنون بالمسيح، أن الألم والفرح يتلازمان. ولعل أصدق صورة جسدت هذه الحقيقة أمام العالم كان التصفيق والزغاريد التلقائية التي زف بها مئات المتألمين أجساد شهدائنا. بالطبع لم ولن يفهم أهل الشر، الذين يشعرون بالرضا والنشوة لأن موت أحدهم حصد حياة آخرين، لماذا يفرح المسيحيون بينما المتوقع أن يولولوا ويلعنوا؟! الإجابة: لأن الصليب لغير المؤمنين جهالة.. والجهالة في هذه القرينة هي عدم الإدراك أنه لا يوجد مجد لشهدائنا أعظم من أن يموتوا بينما كانوا يناشدونه في كنيسته: ”أوصنا.. يارب خلصنا!“
اضطهاد المؤمنين بالمسيح بعد صلبه وقيامته لم يتوقف أبدًا. يسجل الكتاب المقدس بداية عصر الاستشهاد برجم إستفانوس، ومن بعده استشهد جميع التلاميذ، باستثناء يهوذا الذي شنق نفسه، ويوحنا الحبيب الذي نُفي إلى جزيرة بطمس: يعقوب ابن زبدي قُطعت رأسه سنة ٤٤م، فيلبس صُلب سنة ٥٤م، متَّى قُتل بفأس سنة ٦٠م، يعقوب ابن حلفى ضُرب حتى الموت، بطرس صُلب مقلوبًا، وأخوه أندراوس صُلب أيضًا، يهوذا أخو يعقوب، برثولماوس، توما، وسمعان الغيور استشهدوا جميعًا، متياس قُطعت رأسه بالسيف، بولس استشهد في روما، مرقس رسول الديار المصرية سُحل وتقطع جسده، وآخرون من قديسي الكنيسة الأولى مثل لوقا الطبيب، برنابا، تيموثاوس قد استشهدوا من أجل إيمانهم بالمسيح.
هذا التاريخ العظيم لم ينته باستشهاد التلاميذ والرسل الأولين؛ فعشرات الآلاف قدموا حياتهم طوعًا في عصر الاضطهاد الروماني الذي استمر حتى القرن الرابع الميلادي، عندما أعلن الإمبراطور قسطنطين المسيحية ديانة رسمية للإمبراطورية. لكن لم يتوقف تاريخ الاستشهاد مع قسطنطين؛ففي تلك الفترة استشهد الكثيرون من أجل إيمانهم بينما كانت المسيحية تنتشر خارج حدود الإمبراطورية الرومانية، واستمر الاضطهاد في القرون التالية حتى يوم الأحد الماضي بتفجير كنيستي مارجرجس بطنطا والمرقسية بالأسكندرية، ولو أخذ صورًا وأشكالاً مختلفة، وينفذه أعداء آخرون للمسيح، ممَنْ يستخدمهم الشيطان ليقتلوا الأبرياء ويكفروا العباد!
في كل مرة تتعرض كنائسنا لهجوم إرهابي شرير، نحتاج أن نقف مجددًا أمام كلمات الرب يسوع لتلاميذه، وهو مُقبل على آلام الصليب: «أنتم تؤمنون بالله فآمنوا بي… سلامًا أترك لكم، سلامي أعطيكم… لاتضطرب قلوبكم ولا ترهب… إن كان العالم يبغضكم فاعلموا أنه قد أبغضني قبلكم… ليس عبد أعظم من سيده.. إن كانوا اضطهدوني فسيضطهدونكم… قد كلمتكم بهذا لكي لا تعثروا… تأتي ساعة فيها يظن كل مَنْ يقتلكم أنه يقدم خدمة لله، وسيفعلون هذا بكم لأنهم لم يعرفوا الآب ولا عرفوني… في العالم سيكون لكم ضيق، ولكن ثقوا: أنا قد غلبت العالم» (من إنجيل يوحنا ١٥ و١٦).
ما الذي يجعل الانتحاريين يقبلون على تفجير أنفسهم ليقتلوا الأبرياء بلا تمييز؟ وما الذي يجعلهم يظنون أن قتل الآخر يعلن عن إيمانهم بالله، وبه ينالون مجازاة عظمى في الحياة بعد الموت؟! الإجابة على مثل هذه الأسئلة تتعلق بغموض أو وضوح ما يعتقده الشخص عن الحياة بعد الموت. لا شك أن الانتحاري الذي يفجر نفسه يفعل ذلك من واقع شعور بالفراغ الداخلي لم يملأه الفهم الخاطىء للدين، ولرغبته في تأمين خلود يوفر له كل ما حُرم من التمتع به على الأرض. على خلاف ذلك فإن شهداء المسيحية عبر التاريخ تحملوا التعذيب والإهانة، وقبلوا الموت من أجل إيمانهم بالمسيح الحي، الذي بقيامته أبطل الموت، وأنار الحياة والخلود.. «هذه هي الحياة الأبدية: أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته» (يوحنا ٣: ١٧).
سامي يعقوب